سورة العنكبوت - تفسير تفسير الشعراوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (العنكبوت)


        


{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ(7)}
يذكر لنا سبحانه وتعالى النتائج {والذين آمَنُواْ...} [العنكبوت: 7] أي: بالله رباً، له كل صفات الكمال المطلق، وله طلاقة القدرة، وله طلاقة الإرادة، وهو المهيمن، وهو الحاكم.. إلخ.
ثم {وَعَمِلُواْ الصالحات...} [العنكبوت: 7] لأن العمل الصالح نتيجة للإيمان، وثمرة من ثمراته، والصالح: هو الشيء يظلُّ على طريقة الحُسْن فيه فلا يتغير، فقد أقبلت على عالم خلقه الله لك على هيئة الصلاح فلا تفسده، وهذا أضعف الإيمان أنْ تُبقِي الصالح على صلاحه، فإن أردتَ الارتقاء، فزِدْه صلاحاً.
يقول تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض قالوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11].
فقد أعدَّ الله لنا الأرض صالحة بكل نواميسها وقوانينها، أَلاَ ترى المناطق التي لا ينزل بها المطر يُعوِّضها الله عنه بالمياه الجوفية في باطن الأرض، فماء المطر الزائد يسلكه الله ينابيع في الأرض، ويجعله مخزوناً لوقت الحاجة إليه، وتخزين الماء العذب في باطن الأرض حتى لا تُبخِّره الشمس، يقول تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ} [الملك: 30].
وضربنا مثلاً لترك الصالح على صلاحه ببئر الماء الذي يشرب منه أهل الصحراء، فقد نرمي فيه القاذورات التي تُفسد ماءه، وقد نرى مَنْ يُهيل فيه التراب فيطمسه، وهذا كله من إفساد الصالح، وربما يأتي مَنْ يبني حوله سوراً يحميه، أو يجعل عليه آلة رَفْع ترفع الماء وتُريح الناس الذين يردونه، فإذا لم تكُنْ من هؤلاء فلا أقلَّ من أن تدعه على حاله.
فالصالح إذن: كل عمل وفكر يزيد صلاحَ المجتمع في حركات الحياة كلها، وإياك أن تقول إن هناك عملاً أشرف من عمل، فكل عمل مهما رأيته هيِّناً- ما دام يؤدي خدمة للمجتمع، ويُقدِّم الخير للناس فهو عمل شريف، فقيمة الأعمال هي قيمة العامل الذي يُحسنِها وينفع الناس بها، يعني: ليس هناك عمل أفضل من عمل، إنما هنَاك عامل أفضل من عامل؛ لذلك يقولون: قيمة كل امريء مَا يُحسِنه.
وسبق أن ضربتُ لذلك مثلاً، وما أزال أضربه، مع أنه من أُنَاس غير مسلمين: كان نقيب العمال في فرنسا يطالب بحقوق العمال ويدافع عنهم ويُوفِّر لهم المزايا، فلما تولى الوزارة قالوا له: أعطنا الآن الحقوق التي كنتَ تطالب بها لنا، وربما كان يطالب لعماله بما تضيق به إمكانات وميزانيات الوزارة، أما الآن فقد أصبح هو وزيراً، وفي إحدى المرات تطاول عليه أحد العمال وقال: لا تنْسَ أنك كنت في يوم من الأيام ماسحَ أحذية، فقال: نعم، لكنني كنت أتقنها.
ثم يذكر الحق سبحانه جزاء الإيمان والعمل الصالح: {لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ...} [العنكبوت: 7] وهنا تتجلى العظمة الإلهية، حيث بدأ بتكفير السيئات وقدَّمها على إعطاء الحسنات.
لأن التخلية قبل التحلية، والقاعدة تقول: إن دَرْءَ المفسدة مُقدَّم على جَلْب المصلحة، فهَبْ أن واحداً يريد أنْ يرميك مثلاً بحجر، وآخر يريد أنْ يرمي لك تفاحة، فأيهما تستقبل أولاً؟ لا شكَّ أنك ستدفع أذى الحجر عن نفسك أولاً.
والخالق- عز وجل- يعلم طبيعة عباده وما يحدث منهم من غفلة وانصراف عن المنهج يُوقِعهم في المعصية، وما دام أن الشرع يُعرِّف لنا الجرائم ويُقنِّن العقوبة عليها، فهذا إذنٌ منه بأنها ستحدث.
لذلك يقول تعالى لعباده: اطمئنوا، فسوف أطهركم من هذه الذنوب أولاً قبل أنْ أعطيكم الحسنات، ذلك لأن الإنسان بطبعه أميل إلى السيئة منه إلى الحسنة، فيقول سبحانه: {لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ...} [العنكبوت: 7].
بل وأكثر من ذلك، ففي آية أخرى يقول سبحانه: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [الفرقان: 70] فأيُّ كرم بعد أنْ يُبدِّل الله السيئة حسنةً، فلا يقف الأمر عند مجرد تكفيرها، فكأنه(أوكازيون) للمغفرة، ما عليك إلا أنْ تغتنمه.
وفي موضع آخر يقول سبحانه: {إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات...} [هود: 114] وفي الحديث الشريف: «وأتبع السيئة الحسنةَ تمحها».
ثم يذكر سبحانه الحسنة بعد ذلك: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [العنكبوت: 7] قلنا: إن الحق سبحانه إذا أراد أنْ يعطي الفقير يقترض له من إخوانه الأغنياء {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً...} [البقرة: 245].
مع أنه سبحانه واهب كل النعم يحترم ملكية عباده، ويحترم مجهوداتهم وعرقهم، فاحترم العمل واحترم ثمرة العمل، كما يعامل الوالد أولاده، فيأخذ من الغني لمساعدة الفقير على أنْ يعيد إليه ماله حين مَيْسرة، فكما أنك لا ترجع في هبتك، كذلك ربُّك- عز وجل- لا يرجع في هبته.
وأذكر ونحن في أمريكا سألنا أحد المستشرقين يقول: هناك تعارض بين قول القرآن: {مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا...} [الأنعام: 160] وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مكتوب على باب الجنة: الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر».
فشاء الله أن يلهم بكلمتين للردِّ عليه، حتى لا يكون للكافرين على المؤمنين سبيل. فقلت للمترجم: نعم الحسنة بعشر أمثالها حين تتصدَّق، لكن في القرض مثلاً لو تصدَّق بدولار فهو عند الله بعشرة دولارات، لكن يعود عليك دولارك مرة أخرى، فكأن لك تسعة دولارات، فحين تضاعف تصير ثمانية عشر.
وبعد ذلك ينتقل الحق سبحانه إلى الدائرة الأولى في تكوين المجتمع، وهي دائرة الأسرة المكوَّنة من: الأب، والأم، والأولاد، فأراد سبحانه أن يُصلح اللبنة الأولى ليصلح المجتمع كله، فقال تبارك وتعالى: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً...}.


{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(8)}
الوالدان يخدمان الابن حتى يكبر، ويصير هو إلى القوة في حين يصيران هما إلى الضعف، وإلى الحاجة لمن يخدمهما، وحين ننظر في حال الغربيين مثلاً وكيف أن الأبناء يتركون الآباء دون رعاية، وربما أودعوهم دار المسنين في حالة برِّهم بهم، وفي الغالب يتركونهم دون حتى السؤال عنهم؛ لذلك تتجلى لنا عظمة الإسلام وحكمة منهج الله في مجتمع المسلمين.
لذلك قال أحد الحكماء: الزواج المبكر خير طريقة- لا لإنجاب طفل- إنما الإنجاب أب لك يعولك في طفولة شيخوختك. لذلك أراد الحق سبحانه أن يبني الأسرة على لبنات سليمة، تضمن سلامة المجتمع المؤمن، فقال سبحانه: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً...} [العنكبوت: 8]، وفي موضع آخر قال سبحانه في نفس الوصية {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً...} [الأحقاف: 15].
وفَرْق بين المعنيين: {حُسْناً...} [العنكبوت: 8] أي: أوصيك بأنْ تعملَ لهم الحُسْن ذاته، كما تقول: فلان عادل، وفلان عَدْل، فوصَّى بالحسْن ذاته. أما في {إِحْسَاناً...} [الأحقاف: 15] فوصية بالإحسان إليهما.
لكن، لماذا وصَّى هنا بالحُسْن ذاته، ووصَّى هناك بالإحسان؟
قالوا: وصَّى بالحسن ذاته في الآية التي تذكر اللدد الإيماني، حيث قال: {وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ...} [العنكبوت: 8] والكفر يستوجب العداوة والقطيعة، ويدعو إلى الخصومة، فأكَّد على ضرورة تقديم الحسن إليهما؛ لا مجرد الإحسان؛ لأن الأمر يحتاج إلى قوة تكليف.
أما حين لا يكون منهما كفر، فيكفي في برِّهما الإحسان إليهما؛ لذلك يقول سبحانه: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً...} [لقمان: 15].
والحق سبحانه حين يُوصي بالوالدين، وهما السبب المباشر في الوجود إنما ليجعلهما وسيلة إيضاح لأصل الوجود، فكما أوصاك بسبب وجودك المباشر وهما الوالدان، فكذلك ومن باب أَوْلى يوصيك بمَنْ وهب لك أصل هذا الوجود.
فكأن الحق سبحانه يُؤنِس عباده بهذه الوصية، ويلفت أنظارهم إلى ما يجب عليهم نحو واهب الوجود الأصلي وما يستحقه من العبادة ومن الطاعة؛ لأنه سبحانه الخالق الحقيقي، أما الوالدان فهما وجود سببي.
هذا إيناس بالإيمان، بيَّنه تعالى في قوله: {واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَاناً...} [النساء: 36] لأنهما سبب الوجود الجزئي، والله تعالى سبب الوجود الكلي.
وهذا أيضاً من المواضع التي وقف عندها المستشرقون، يبغُونَ فيها مَطْعناً، ويظنون بها تعارضاً بين آيات القرآن في قوله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً...} [لقمان: 15] وفي موضع آخر: {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانوا آبَآءَهُمْ...} [المجادلة: 22].
وهذا التعارض لا يوجد إلا في عقول هؤلاء؛ لأنهم لا يفهمون لغة القرآن، ولا يفرقون بين الودِّ والمعروف: الودّ مَيْل القلب، وينشأ عن هذا الميل فِعْل الخير، فيمن تميل إليه، أمّا المعروف فتصنعه مع مَنْ تحب ومَنْ لا تحب، فهو استبقاء حياة.
وهنا يقول سبحانه: {وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت: 8] يعني: تذكَّر هذا الحكم، فسوف أسألك عنه يوم القيامة، ففي موضع آخر {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً واتبع سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان: 15].
فكُفْر الوالدين لا يعني السماحَ لك بإهانتهما أو إهمالهما، فاحذر ذلك؛ لأنك ستُسأل عنه أمام الله: أصنعتَ معهما المعروف أم لا؟
وحيثيات الوصية بالوالدين: الأب والأم ذُكرت في الآية الأخرى: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً...} [الأحقاف: 15] نلحظ أن الحيثيات كلها للأم، ولم يذكر حيثية واحدة للأب إلا في قوله تعالى: {وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً...} [الإسراء: 24] وهذه تكون في الآخرة.
قالوا: ذِكْر الحيثيات كلها للأم؛ لأن متاعب الأم كانت حال الصِّغَر، والطَفل ليس لديه الوعي الذي يعرف به فَضْل أمه وتحمُّلها المشاق من أجله، وحين يكبر وتتكوَّن لديه الإدراكات يجد أنَّ الأب هو الذي يقضي له كل ما يحتاج إليه.
إذن: فحيثيات الأب معلومة مشاهدة، أمّا حيثيات الأم فتحتاج إلى بيان.
يقول الحق سبحانه: {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات...}.


{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ(9)}
فقدّم الإيمان، لأنه الأصل، ثم العمل الصالح، وكأن الدخول في الصالحين مسألة كبيرة، وهي كذلك، ويكفي أنها مُتَمنى حتى الأنبياء أنفسهم.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَمِنَ الناس مَن يِقُولُ آمَنَّا بالله فَإِذَآ...}.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8